جمهورية كردستان الكبرى .. أكاديمية الدراسات الإسنرتيجية والدولية/ قسم الحقوق
المحتويات
مقدمة
المبحث الأول: شروط قيام جريمة خيانة الأمانة
الخاتمة
مقدمة
فقد كرَّم الله ُU
الإنسـانَ حين خلقَهُ بيديْهِ، ونَفَخَ فيه من رُوحِهِِ، ومَنَحَهُ نِعْمَةَ
العَقْلِ، وهَيَّأَهُ لقَبُولِ التَكْلِيفِ، إِنْ عَمِلَ الخيرَ أُثِيبَ، وإنْ
عَمِلَ الشَّرَ عُوقِبَ، وهذا مقتضى قَبولِ الأمانةِ التي حَمَلَهَا الإنسانُ، وأرسى القواعد الأخلاقية التي تكفُلُ
الحقوقَ والواجبات، وتسُودُهُ الأمانةُ والعدلُ والمحبةُ.
وإن
من أَجَّلِ القِيَمِ الخُلُقِيَّةِ التي بُنِيَت عليها شريعةُ الإسلامِ الأمانةَ،
وهي قيمةٌ عظيمةٌ تُصانُ بها حقوقُ اللهِ Y وحقوقُ الناس، لذا ألزمَ الإسلامُ الناسَ بها إلزامًا وأوجبها
عليهم وجوبًا، وَدَعَا إلى أدائها في جميعِ الأمورِ التي تتصلُ بالفردِ والمجتمعِ
. كما أنَّ النبيَ r رَبَطَ الأمانَةَ بالإيمانِ إذ قال: "لا إِيمَانَ لِمن لا أَمَـانَةَ لَهُ ،
وَلا دِيـنَ لِمنْ لا عَهْـدَ لَـهُ" .
ومن الأمانةِ الكبرى
التي حَمَلَهَا الإنسانُ أمامَ اللهِ U بالخضوع لأوامِرِهِ، والانتهاءِ عن زواجِرِهِ- انبثقتْ سائرُ
الأماناتِ مثلُ : أمانَةِ الشَّهَادَةِ لهذا الدِّينِ، وأمانةِ العِلمِ، وأمانةِ
الدَّعوةِ إلى الله تعالى، وأمانةِ المحافظةِ على حرماتِ المجتمعِ، وأمانةِ
التعاملِ مع الناس، ورَدِّ أمانَاتِهِم إليهم..، قال ابن مسعود t
:"..وَالأَمَانَةُ في الصلاة، والأَمَانَةُ في الصَوم، والأَمَانَةُ في
الحديث، وَأَشَدُ ذَلك الودَائع.."،
فالأمانة في الإسلامِ مفهومها شاملٌ لدين الإنسان وطاقَتِهِ في تحمِّلِ أعباءِ
التكاليفِ التي فَرَضَهَا الله تعالى عليه .
و يتمثل الهدف الأساسي للقانون الجزائي في تنظيم السلوك
البشري من خلال جملة من القواعد القانونية، إلا أن هذا لا ينفي الترابط الوثيق
بينه وبين القانون المدني الذي يبرز في عديد الميادين منها حماية الحقوق ذات
القيمة المالية. فقانون العقوبات نص على عدة جرائم تمس من هذه الحقوق و تعرض إلى
زجرها مكرسا بذلك حماية جزائية للأموال العمومية و الأموال الخاصة، من ذلك جريمة
الاختلاس أو سوء التصرف في الأموال العمومية من طرف الموظفين و أشباههم، جرائم
السرقة، التحيل و خيانة الأمانة. و لئن كانت كل هذه الجرائم تمس من ترابط المجتمع
و توازنه و تؤثر على سلامة المعاملات بين الناس فإننا سنخص بالدراسة في هذا البحث
جريمة خيانة الأمانة التي نص عليها الفصل 297 م.ج إذ جاء به أنه:"يعاقب
بالسجن مدة ثلاثة أعوام و بغرامة مالية كل من يختلس أو يتلف أو يحاول أن يختلس أو
يتلف سندات أو نقودا أو سلعا أو رقاعا أو وصولات أو غير ذلك من الكتائب المتضمنة
لالتزام أو إبراء أو القاضية بهما لم تسلم له إلا على وجه الكراء أو الوديعة أو
الوكالة أو التوثقة أو الإعارة أو لأجل عمل معين بأجر أو بدونه بشرط ترجيعها أو
إحضارها أو استعمالها في أمر معين قاصدا بذلك الإضرار بأربابها أو المتصرفين فيها
أو من هي بأيديهم.
و يكون العقاب بالسجن مدة عشرة
أعوام إذا كان الجاني وكيلا أو مستخدما أو خادما أو أجير يومه لصاحب الشيء المختلس
أو وليا أو وصيا أو ناظرا أو متقدما أو مؤتمنا أو متصرفا قضائيا أو مديرا لوقف أو
مستخدما به".
ولئن كان واجب الحفاظ على
الأمانة ثابت بالقرآن الكريم و السنة النبوية منذ عهد بعيد فان تجريم خيانة
الأمانة قانونا يرجع إلى الثورة الفرنسية
ذلك أن القانون الروماني والقانون الفرنسي القديم كانا لا ينصان على جريمة خيانة
الأمانة التي كانت تدخل تحت وصف جريمة السرقة و لا تستوجب تتبعا جزائيا و إنما
مساءلة مدنية فحسب تقتصر على التعويض.
و ظل الحال على هذا المنوال إلى حين صدور القانون
الفرنسي لسنة 1791 الذي فرق لأول مرة بين خيانة الأمانة و السرقة.
و لما كانت نقاط التشابه موجودة
بين جريمة خيانة الأمانة و الجرائم الأخرى، فانه يجدر التمييز بينها و جرد نقاط
الاختلاف بينها تفاديا لكل خلط أو التباس في المفاهيم.
فبالنسبة لجريمة السرقة فإنها تختلف عن جريمة خيانة الأمانة في كون الأولى
تتمثل في الاستيلاء على المال و اغتصاب الجاني للحيازة و ذلك إما رغما عن إرادة
مالكه أو دون علمه، في حين أنه في جريمة خيانة الأمانة يكون المتضرر قد سلم الشيء
بصورة إرادية إلى الجاني الذي غير حيازته من حيازة ناقصة إلى حيازة كاملة و تصرف
في الشيء تصرف المالك في ملكه.
و أما بالنسبة لجريمة التحيل
المنصوص عليها بالفصل 291 م.ج فإنها تختلف كذلك عن جريمة خيانة الأمانة. ففي إطار
هذه الأخيرة يكون الجاني قد حصل على المال بإرادة مالكه أي بصورة شرعية، أما في
جريمة التحيل فان المتضرر يكون ضحية استعمال وسيلة من وسائل الخداع المنصوص عليها
بالفصل 291 من م.ج و ذلك باستعمال اسم أو صفة غير صحيحة أو استعمال الحيل و
الخزعبلات من قبل الجاني حتى يدفعه للتفريط في ماله.
و في نطاق دراسة
جريمة خيانة الأمانة، فانه يبدو من المفيد التعرض باختصار لجريمة الخيانة على بياض
التي جاء بها الفصل 300 من م.ج إذ ورد به :"يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام و
بخطية قدرها سبعمائة و عشرون دينارا كل من أمن على رقعة خالية من الكتابة بها
إمضاء الغير و خان الأمانة بأن ضمن بها التزاما أو إبراء أو غير ذلك من العقود
التي من شأنها توريط ذات أو مكاسب صاحب الإمضاء.
و إذا لم يؤتمن على تلك الرقعة
فانه يقع تتبعه و عقابه بصفته مدلسا".
لئن كانت الجريمتان أي جريمة خيانة الأمانة و جريمة خيانة الائتمان على
الإمضاء تشتركان في عنصري الائتمان و الخيانة، فان هذا التشابه لا يمكن أن يخفي
الاختلاف بينهما، ذلك أن جريمة خيانة الأمانة لا تقوم إلا بتوفر ركن الاستعمال أي
أن يستعمل الجاني الشيء المؤمن لديه في غير الأمر المتفق عليه، فبغياب هذا الركن
تنعدم الجريمة. أما جريمة خيانة الأمانة على البياض الممضى فهي جريمة فورية تقوم
بمجرد تضمين الجاني "لالتزام أو إبراء أو غير ذلك من العقود التي من شانها
توريط ذات أو مكاسب صاحب الإمضاء"، سواء استعملت الورقة الممضاة أو لم تستعمل.
في هذا الإطار و بعد التطرق إلى
التفرقة بين جريمتي خيانة الأمانة و بعض الجرائم الأخرى فانه سوف يقع تخصيص هذه
الدراسة إلى جريمة خيانة الأمانة طبقا للفصل 297 من م ج، و سوف نحاول التطرق إلى
خصوصيات هذه الجريمة من خلال فقه القضاء الصادر في هذا المجال، لذلك فان الإشكالية
القانونية التي سنعالجها في هذا ابحث تتمثل فيما يلي: ماهو النظام القانوني لجريمة
خيانة الأمانة في القانون الليبي؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تفضي إلى الإقرار بأن لجريمة خيانة الأمانة شروطا
و أركانا محددة كما أن لها آثارا قانونية خاصة بها. لذلك سنخصص الجزء الأول من هذه
الدراسة إلى شروط قيام جريمة خيانة الأمانة و الجزء الثاني منها إلى آثار هذه الجريمة.
أولا : أهمية الموضوع :
تتبين أهميةُ الموضوع من الأمور
الآتية :
1- ذكرُ الأَمَانَة في القرآن الكريم والسنة النبوية في مواضع
عديدة، وارتباطها بالفضائل الخلقية التي تظهر آثارها في السلوك والعبادة والإيمان
.
2- سعةُ مفهوم الأمانة في الإسلام؛ فهي شاملة
للدِّين، وتتعلق بطاقة الإنسان، وتحمله أعباءَ التكاليف التي فرضها الله تعالى عليه .
3- حاجةُ المسلمين اليوم إلى وعيٍ صحيحٍ بقيمة الأَمَانَة وإدراكٍ
لأهميةِ تطبيقِهَا في واقعِ حياتهم .
4- وجود آثارٍ مدمرةٍ في بناء الأمة العربية
نتيجة لعدم التزام أفرادها بالأَمَانَةِ على الوجهِ الصحيحِ.
5- ثناءُ الكُتَّابِ والباحثين، مع اختلاف مللهم
وتباين وجهاتهم، على الأَمَانَةِ والأُمَنَـاءِ، واتفاقُ العُقلاءِ جميعًا على
أهميتها في كل زمانٍ ومكانٍ .
ثانيا : الدراسات السابقة للموضوع :
لم يتناول أحد هذا الموضـوع في
أي من أقسام جامعات ليبيا كأطروحة علميـة فيما ظهر لي، وأُورِدُ فيما يلي،
نَبْذَةً عن أبرزِ الكتاباتِ التي تناولت جوانب من الموضوع :
أ- الدراسات والمؤلفات في التراث الإسلامي
القديم :
قد
يورد بعض المفسرين والمحدثين والفقهاء والأخلاقيين والمؤرخين
والقانونيين
وغيرهم، إشاراتٍ يسيرةً إلى الأمانة، ومن أقربِ المؤلفاتِ للحديث عن الأمـانةِ
كُتُبُ الأخلاقِ في التراثِ الإسلامي أمثال : تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق لابن
مسكويه، وإحياء علوم الدين، وميزان العمل، ومكاشفة القلوب-كلها- لأبي حامد
الغزالي، ومدارج السالكين لابن القيم، ومع ذلك فهي لم تُفْرِدْ للأمانة موضوعا
مستقلا، أو بابا أو فصلا، على أن بعض الأئمة قد عُني بذكر الأمانة في الولايات
العامة، كشيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته السياسة الشرعية .
ب-
الدراسات والمؤلفات الحديثة : ركزتْ جُلُّ الدراساتِ والمؤلفاتِ
الحديثةِ على تناولِ بعضِ النصوصِ الشرعيةِ الواردةِ في الأَمَانَةِ وذكرِ بعضِ القَصَصِ في الأمانةِ . ومن أمثلة ذلك :
1- (الأمانةُ والأُمَنَاءُ) لأحمد نصيب
المحاميد :
ويعدُّ هذا الكتابُ من أوائل الكتبِ التي أَفْرَدَتْ
عنوانَ الأمانةِ على حسب علمي، جمع فيه المؤلفُ نصوصَ القرآنِ الكريمِ في الأمانةِ،
وبعضَ الأحاديثِ وتحدثَ عنهما بإيجاز، وذكر بعضَ أقوالِ الصحابةِ –y -، وأقوالِ مَنْ بَعدَهُم في الأمانةِ، وأَوْرَدَ
مجموعةً من القَصَصِ التي تُبَيِّنُ النتيجةَ الحسنةَ للأَمَانَةِ وأهميتَها ومكانَتَها
.
2-
(الأخلاقُ الإسلاميةُ وأُسُسُها) لعبد الرحمن حبنكة الميداني :
ويُعَدُّ
هذا الكتابُ من الكتبِ القيمةِ في موضوعِ الأخلاقِ الإسلاميةِ، جَمَعَ فيه المؤلفُ
مجموعةً من الأخلاقِ والقيمِ، خص (الأمانة) منها بمبحث مستقل، عرض فيه : تعريفَها،
وموقفَ الإسلامِ منها ، وأنها من أبرزِ أخلاقِ الرسلِ، وأهم مجالاتها، مستشهدا
ببعض الآياتِ الواردةِ فيها، وطائفةٍ من الأحاديثِ النبوية الشريفةِ في فضلها .
3-(موسوعة
نضرةُ النعيم في أخلاق الرسول e) إعدادُ: مجموعةٍ من المختصين :
وتُعَدُّ هذه الموسوعةُ من أوسعِ الموسوعاتِ في
أخلاقِ الرسولِ r، وقد تناولتْ خُلُقَ الأمانة من عدة جوانب، منها : تعريفُها لغةً
واصطلاحًا، وبيانُ أمانةِ الرسلِ، ومجالاتُ الأمانةِ، والأمانةُ والتكليفُ، مع ذكرِ
الآياتِ الواردةِ فيها وأقوالِ المفسرين لها، وفيها مجموعة من الأحاديث النبوية،
والآثارِ، وأقوالِ العلماءِ الشراحِ المتعلقة بها .
ج- الدراسات العلمية (الأكاديمية) :
تم
الاطلاعُ على العديدِ من الرسائلِ الجامعية (ماجستير ودكتوراه) وأكتفي هنا بذكر
أبرز الرسائل التي لها صلة بموضوع الأمانة :
1- (الأمانة كما يصورها القرآن الكريم) لجمال
إبراهيم حافظ الشهاوي : وهي رسالة ماجستير نوقشت عام 1409هـ/1989م، في
كلية أصول الدين بجامعة الأزهر في القاهرة، قسم التفسير وعلوم القرآن، وقد تناول
فيها الباحث موضوع الأمـانة في دراسته وفق
منهجية التفسير الموضوعي للآيات الواردة في الأمانة .
2- (الأمانة في ضوء الكتاب والسنة) لغصنة
بنت جدوع الظفيري : وهي رسالة ماجستير نوقشت عام
1421هـ/2001م، في كلية الدراسات العليا بجامعة الكويت، وقد تناولت فيها الباحثة
موضوع الأمانة وفق منهجية الحديث الموضوعي أثناء دراستها للأحاديث الواردة في
الأمانة وبيان صحتها أو ضعفها .
3- (السياسة الإسلامية أساسها الأمانة
والعدل) لمحمد محمد عبد الحي عبد القادر : وهي رسالة دكتوراه نوقشت عام
1401هـ/1981م، في كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر في القاهرة، وقد تناول فيها
الباحث موضوع الأمانة وفق منهجية السياسة الشرعية أثناء دراسته للسياسة العامة في
الولايات وواجباتها .
4-(خيانة الأمانة في الوديعة في الشريعة
الإسلامية) لألفت عبد المنعم أحمد فتح الله : وهي رسالة دكتوراه نوقشت عام
1414هـ/1994م، في كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بجامعة الأزهر في
القاهرة، وقد تناولت فيها الباحثة موضوع الأمانة وفق منهجية الفقه المقارن من خلال
دراسة خيانة الأمانة في الوديعة وبيان أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بها .
5-(الأمانة وسيكلوجية الشخصية) لأشرف سيد
أبو السعود عبد الله : وهي رسـالة ماجستير نوقشت عام 1416هـ/
1996م، في كلية الآداب بجامعة عين شمس، قام الباحث بدراسة الأمانة من الوجهة
النفسية، وأجرى اختبارات ميدانية استكشافية، وتحليلات إحصائية تتعلق بها .
6-(دراسة تحليلية لسلوك عدم الأمانة
وعلاقته بالحكم الأخلاقي لدى المراهقات) لعبير غانم أحمد غانم : وهي رسـالة
ماجستير نوقشت عام 1417هـ/1997م، في كلية التربية بجامعة أسيوط، قامت الباحثة
بدراسة سلوك عدم الأمانة على الطالبات المراهقات وأثر انحرافهن الأخلاقي، وأجرت
دراسة ميدانية، ودراسة تطبيقية (كلينيكية) وفق منظور الصحة النفسية .
ثالثا : سبب اختياري للموضوع :
إضافة لما تم ذكره في أهمية الموضوع ولعدم وجود
دراسة متكاملة فيه، فإن هذا الموضوع لم يسبق تناوله مفردا في دراسة فكرية أخلاقية
في حدود علمي، ورغبة مني في تقديم نفع للأمة الإسلامية والعربية، والنصح لها،
وإثراء المكتبة الإسلامية؛ لهذا كله اخترت هذا الموضوع والكتابة فيه بما يتلاءم مع
منهج تخصص الثقافة الإسلامية .
رابعا : منهج البحث :
حرصت
في هذا البحث أن أدرس مفهوم الأمانة وأن أبين آثارها في المجتمع، وأن أوضح أسسها،
ومجالاتها، وآثار أدائها، وآثار تضييعها، وفق الخطة المرسومة لهذه الأطروحة، وقد
اعتمدت فيها على الآتي :
أ- مسلك التأصيل والاستقراء في تتبع الأدلة
الشرعية الواردة في الأمانة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله r، وما ذكره أهل العلم في ذلك، ومناقشة الآراء المخالفة .
ب- المنهج العلمي التحليلي في
استخدام خطة منظمة للوصول إلى الاستنتاج، بادئا من الجزئيات منتهيا إلى الكليات
والنتائج والآثار .
ج- المنهج النقدي في استخلاص
الآثار الخيرة لأداء الأمانة في المجتمع، والآثار المدمرة للإخلال بالأمانة، وبيان جوانب النقص والقصور والانحراف
في الفكر الإنساني البعيد عن هداية الوحي .
كما روعي في صياغة البحث :
1- عرضه في أسلوب علمي وعبارة
سهلة وواضحة ومترابطة .
2- عزو النصوص الواردة إلى
مظانها، فَإِنْ كانت آياتٍ كريمة فإلى موطنها في القرآن الكريم، وكتابتها وفق
الرسم العثماني كما هي في مصحف المدينة.
3-
التعريف بالأعلام غير المشهورين الوارد ذكرهم في البحث ممن توافرت لهم ترجمة.
4- وضع قوائم للآيات الواردة في
البحث، والأحاديث والآثار، والأعلام، والمصطلحات العلمية، والفرق والمذاهب،
والأبيات الشعرية، والمصادر والمراجع، والموضوعات، تسهيلا على القارئ في الحصول
على المعلومة التي يريدها .
خامسا : الصعوبات التي واجهتني
:
كان من أبرز الصعوبات التي
واجهتني في بحثي هذا :
1- قلة المصادر والمراجع
المفردة في الموضوع؛
2- تداخل مفهوم الأمانة
الأخلاقي بغيره، ولا سيما في تناول أسُسِها ومجالاتها وآثارها وتشابهها، وتأثيرِ
كلٍ منها في الآخر سلبا وإيجابا.
أنواع الأمانةُ
عُدَّت الأمانةُ قيمةً خلقيةً واسعةَ الدلالة ،
لها معانٍ متعددةٌ تتنوع بتنوع العلوم والمعارف،
ويمكن إجمالها في الآتي :
أ-
الأمانة في اللغة العربية : ضد الخيانة .
ب- وفي الاصطلاح لها معان عديدة أرجحها: أمانة
التكليف والطاعة والفرائض، وأمانة الودائع . وقد غلب استعمالها في بعض دلالالتها،
طبقا لتخصصات أهل كل علم، فالمراد بها :
1- عند المفسرين : جميع معاني الأمانات في الدِّينِ
والفرائضِ وأماناتِ النَّاس .
2- وعند المحدثين بمعنى : الإيمان والتَّكَاليف
والمسؤولية .
3- وعند الفقهاء بمعنى : الوديعة .
4- وعند الأخلاقيين بمعنى : العفَّة والعدالة .
5- وعند علماء النفس : سمة الالتزام بأعراف
المجتمع .
6- وعند علماء القانون : التركيز على جانب خيانة
الأمانة .
ج- شاعت الأمانة باعتبارها قيمةً خلقيةً في
المجتمعات القديمة، فكانت تعني :
1- في المجتمع اليوناني : فضائل تتعلق بالعلاقات
بين الناس .
2- في المجتمع الروماني : لم تكن واقعًا ملموسًا
يحكم أمور الحياة ، وإنما وُصِفَ الرومانيون بالأمانة في حقبة تاريخية محدودة .
3- في المجتمع الفارسي : عدت ضمن الفضائل
الأخلاقية الأساسية في المجتمع .
4- عند أهل الكتاب :
أ- أوجب اليهود الأمانة وجعلوها فضيلةً خلقيةً
تنظم علاقاتهم ومعاملاتهم .
ب-
عدَّها النصارى ضمن الأخلاق اللاهوتية المسيحية، وتعني لديهم :الثبات .
5- نظر إليها العرب في جاهليتهم على أنها من مكارم
الأخلاق .
6- عُدَّت الأمانة في الفكر الغربي ضمن الفضائل
المحمودة، والتي تعني تحمل المسؤولية والانضباط والثقة من أجل تحقيق المصلحة
والمنفعة المادية .
ثانيا : الأمانة إحدى الفضائل الإنسانية البارزة
في منظومة الأخلاق، وهي تقوم على أسس ثلاثة هامة :
أ- الفطرة النقية : تنمو الأمانة في ظل التزكية
والتثقيف، وتنقص في ظل الإهمال والتكاسل، ويميل الناس فطرة إلى تقدير الأمانة،
وإجلال الأمناء في جميع المجتمعات .
ب- العقل السليم : يستحسن العقل
الأمانةَ باعتبارها قيمةً كبرى، وضرورة عقلية للتعامل الإنساني في جميع شؤون الحياة،
فالعقل هو المميز الجوهري للإنسان، وهو سر الإنسانية المؤهلة للتكليف وحمل
الأمانة، فالعقل السليم يُقدر الأمانة؛ لأنه يميز بين طريقي الهداية والضلال بعد
بيان الرسل لهما .
ج- الشرع : يكتمل أمر الأمانة بالشرع المطهر،
فوظيفة الفطرة والعقل قاصرة عن الوصول إلى الغاية المرادة من القيام بالأمانة،
والتي تتمثل في شعور الفرد بمسؤوليته أمام الله تعالى عن كل ما يوكل إليه من
واجبات وحقوق،
وقد أوجبها الإسلام وَدَعَا إليها في جميع
الأمور التي تتصل بالفرد والمجتمع .
ثالثا : شملت الأمانة التكاليفَ
والواجباتِ التي طولبَ بها الإنسانُ أداء لحقها، ولم يتركْ الإسلامُ أمرَهَا إلى
مجردِ عرفِ المجتمعات وعقولِ الأفراد؛ لأن هذا مما لا تهتدي إليه عقولُ الناس، وآراؤهم،
وخبراتهم دون توجيهات الوحي وإرشاده، بل انفرد بمنهجه الكامل لشرح الأمانة
وتطبيقها في كل مجالات الحياة، وذلك وفق ما يلي :
أ- في مجال العقيدة والعبـادة : الأمانة والإيمان
مرتبطان، فالتفريط في الأمانة دليل على ضعف الإيمان، والأمانة من أعظم الأمور التي
يُسْأَلُ عنها العبد يوم القيامة، وتتمثل الأمانة في الآتي :
1- في مجال العقيدة : ارتباط الأمانة المتين بالإيمان
بالله تعالى، وبالملائكة -عليهم السلام-، والإيمان بالكتب المنزلة، وبالرسل -عليهم
الصلاة والسلام-، والإيمان باليوم الآخر، وبالقَدَرِ خيرِهِ وشرِهِ .
2- وفي مجال العبادة : إقرار الأمانة الوثيق
بالالتزام بجميع التكاليف والعبادات المتعلقة بالأفراد كالصلاة والزكاة والصوم
والحج، وسائر المعاملات، وكذلك أداء العبادات المتعلقة بالجماعة كإمامة المصلين
والآذان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ب- المجال الاجتماعي :
الأمانة آصرة اجتماعية قوية تحث على :
1- رعاية الأسرة المسلمة، وتشمل التأكيد على أمانة
الزوجين في أداءِ الحقوقِ الزوجية، وأمانةِ الزوجين في تربيةِ الأولاد، وأمانةِ
الأولادِ في البر بوالديهم .
2- العلاقات، وتتمثل الأمانة في حفظِ أسرارِ
البيوتِ و المجالسِ، وما يُؤْتَمَنُ عليه من أسرارٍ، سواء على المستوى الفردي أو
على مستوى الدول والحكومات، وما يجب على المسلم من ستر عوراتِ إخوانه صيانةً
للمجتمع من استشراءِ نارِ الفسادِ .
3- الولايات، وتُعَدُّ الأمانة شرطا أساسيا في
تعيينِ الولاةِ ،وتقليدِ المناصبِ، والتكليفِ بالوظائفِ، لأن الولايةَ مسؤوليةٌ
جسيمةٌ، وأمانةٌ ثقيلةٌ لا تَصْلُحُ إلا لمن كان مُؤَهَّلا لها بصفاتٍ معينةٍ مثل
: الإيمانِ، وكمالِ العقلِ، وتمام ِالقوةِ، والكفاءةِ الحقيقيةِ للمنصبِ، والعفةِ
عن سؤالِ المنصبِ، والصدقِ في الأقوالِ والأعمالِ؛ ليتمكنَ من أداءِ واجباتِ
الولايةِ على الوجهِ الأكملِ كما قررهُ الشرعُ الحكيمُ، وبذلِ النصحِ لمجتمعِهِ، ومشاورةِ
الأمناءِ فيما يهمُّ من أمرِ الدُّنيا والدِّينِ .
ج- المجال الاقتصادي :
يمكنُ إجمالُ الأمانةِ في أنها من الأخلاق العظيمة
التي تدعو إلى الآتي :
1- أداء الأمانات إلى أهلها، ويدخلُ فيه حفظُ الديونِ
بكتابتِها، وعدمُ الزيادةِ على أصلِ الدَّينِ، وحسنُ أداء الحقوق، وتعنى الأمانة بتوفية
الكيل والميزان وعدم التطفيف فيهما، وذلك مدعاةٌ لحفظ حقوق الآخرين، وتأكيدِ أواصر
المحبة في المجتمع، وشيوع الأمن والرخاء .
2- الوفاء بالعقود المالية، ويشتمل على تأدية
الأمانة في عقود المعاوضات، مثل توفية أجور المستأجرين، وصونِ بيع المرابحة عن
الخيانة والكذب ببيان ثمن السلعة من غير بينة ولا استحلاف، وكذا الأمانةُ في عقود
التبرعات، والتي تتمثل في الوصية بكتابتها صحيحةً خالية من الغدر بحقوق الآخرين أو
الإضرار بالورثة، وعلى الموصَى إليه أمانةُ إنفاذِ الوصية على الوجه الصحيح، وتتضمن
الأمانةُ رَدَّ الودائعِ وصيانَتَها من الضياع أو التفريط فيها، ورَدَّهَا لصاحبها
متى طلبها كاملةً غيرَ منقوصةٍ، وهذا من قوامِ ازدهارِ النشاطِ الاقتصاديِّ في
المجتمع وتكافلِ أفرادِه .
د- المجال العلمي :
العلم أمانة عظيمة يحملها
ويؤديها الأخيار من الأمة لفظا ومعنى وتأليفا ونشرا، مع القيام بالأمانة في كل من
:
1- حفظِ العـلمِ بتحمل سماعِهِ
أو قراءتِهِ على الشيوخ الأمناء، مهتدين بفعل الصحابة -y - في أمانة
الحفظ والأداء، ومثال ذلك : جمعُ القرآن الكريم، وحفظ السنة النبوية من الضياع
والتحريف، والحكم على الإسناد والمتن وَفْقَ طرقٍ دقيقةٍ لمعرفةِ الصحيحِ من
الضعيفِ، ثم تأدية العـلم للأجيال بعدم كتمانه، والتوقف عن الفُتْيَا بلا علم،
وصيانةُ العلم عن التحريف والتضليل .
2- التأليفِ العلمِي ونشرِهِ،
والتي تعدُّ من أعظم الأمانات العلمية، وتتحققُ بالدقة في نقل الأقوال وتوثيقها،
وتصحيحِ التصحيف، مع ما تتضمنَهُ الأمانةُ من رعايةِ حقِّ المؤلفِ والناشرِ،
والتزامِ المصداقيةِ فيما يُؤلفُ ويُنشرُ من كتبٍ ومصنفاتٍ، بما يُنَمِّي الثروةَ
العلميةَ والمكانةَ الحضاريةَ للمجتمعِ .
رابعا :برزتْ الأمانةُ عمادًا للأخلاق، ومجمعا للفضائل،
وقد ازدانَ التاريخُ بنماذجَ رائعةٍ لأداء الأمانة، فما من شعبة من شعب الأخلاق
والخير الاجتماعي إلا إليها مردُّها، فلا يمكن أن يعيش الناس في أمن واستقرار،
ويتم التعاون بين أفراد المجتمع لولا فضيلةُ الأمانة، فكان من آثار أداءِ الأمانة
في المجتمع :
أ-الآثار السلوكية والنفسية : وتتضح في الآتي :
1-صلاح الفرد واستقامته من خلال تولية النفس
وَجْهَهَا شَطْرَ الحقِّ والفضائل، وابتعادِها عن الشر والرذائل،فيؤدي الفرد ما
افترضه الله تعالى عليه من واجباتٍ في العبادات والمعاملات، ويبتعدُ عن كلِّ
المنهياتِ التي زَجَرَ عنها، فيصدق الأمينُ في معاملاتِهِ، ويقبل الحقَّ،
ويُذْعِنُ لَهُ، فيستحق ثناءَ المولى الكريمِ عليه في كتابِهِ، وتقديرَ الناسِ
لَهُ، فتفشو بهذا التعامل المحبة في المجتمع، ويعم الخيرُ أفرادَه .
2- الإخلاص في أداء الواجبات والمسؤوليات على
النحو المطلوب، وتتضح آثارُ الأمانة في نمو الرقابة الداخلية ويقظةِ الضمير الحي،
فيتقن الأمينُ الأعمالَ الموكلةَ إليه بكل دقة وإحسان، ويتحمل المسؤوليات المناطةَ
به فرديا وجماعيا، مع مراعاة أن كل إنسان مسؤول بقدر استطاعته وتحمله، فَيُحَاسبُ
عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر .
3- نيل السعادة والفلاح، ومن أعظم آثار حصول محبة
الله تعالى ورسوله r للأمين، ثم
محبة الناس واحترامهم وتقديرهم، فيكون ذلك سببا لغناه، فيحفظه الله تعالى في أهله
وماله، وفي حياته، وبعد وفاته، ثم ينال الفلاح في الآخرة، ويرتقي درجات النعيم
الخالدة، وهذه حقيقة بشارة النبي r للأمناء
في الآخرة بضمان الجنة .
ب - الآثار الاجتماعية : وتتضح في الآتي :
1-السمو الخلقي للمجتمع : تبرز آثار الأمانة في
المجتمع في سلامة الصدر، وتماسك الأفراد، وتزكية النفوس، لأن المسلم يتمنى الخير
للناس جميعا، ويحرص على تحقيق مبدأ المحبة والنصيحة في ظل مجتمع أمين وارف .
2- تبادل الثقة بين أفراد المجتمع : كلما ازدادت
الثقة بين أبناء المجتمع كان ذلك دليلا على توافر أمانتهم وسمو أخلاقهم، وهو يساعد
على تحقيق التكافل الذي هو قاعدة المجتمع الإسلامي، وكذا الاحترام المتبادل لجهود
الآخرين وما يقدمونه من عطاء وإسهام يجعل المجتمع أمة واحدة .
3- المظهر الحضاري للمجتمع : تظهر الأمانة بين
الأفراد في وجود نظام اجتماعي شامل لحياة الناس، يقوم على العدل والتماسك والترابط
والقوة مما يؤول إلى تميز المجتمع ونهضته الحضارية في نشر محاسن الإسلام وظهور
الحق .
ج- الآثار الاقتصادية : وتتضح في الآتي :
1- استقامة التعامل المالي وسلامته : ذلك أن
الاقتصاد من المجالات التي لا يكاد يستغني عنها أي فرد في أي مكان وزمان، ولن ينهض
المجتمع اقتصاديا إذا لم يسلك أفراده مسلك الأمانة والاستقامة في التعامل المالي
وتنميته وفق أحكام الشريعة، فيحقق السبيل إلى جعل الدنيا وسيلة للآخرة وذخرا
لمرضاة الله تعالى .
2- تحقق الأمن الاقتصادي : عني الإسلام بتنمية
المال في شتى مجالات الحياة؛ ليتحقق الأمن المنشود باستغلال الموارد الاقتصادية؛
التي هي هبات من الله تعالى، وهي أمانة في يد الأفراد والمجتمعات، يمكن أن توظف في
سبيل تحقيق الاستقرار وإشاعة الرخاء، والعمل على إقامة العدل، فيعم الأمن والأمان
في أرجاء البلاد ونفوس العباد، وتكون الحركة التجارية أكثر ازدهارا وتبادلا
للمنافع المعيشية والحاجات الضرورية والكماليات الاستهلاكية .
د- الآثار العلمية : وتتضح في الآتي :
1-ضبط الموازين العلمية، وذلك بقيام العلماء
بإرساء قواعد منهجية وفق مصادر الإسلام (الكتاب والسنة) مرتبطة بالإيمان، مع حرص
على الأمانة في التحري والتثبت، وقد دفع هذا المنهج غير المسلمين إلى الاعتراف
للمسلمين بالأمانة العلمية في مناهجهم العلمية، كما أبدع العلماء المسلمون في علم
الإسناد، والجرح والتعديل، ودفع الكذب عن حديث رسول الله r، وكذا التعاون العلمي الموسوعي، والتناصح بين العلماء .
2- ازدهار الحركة العلمية، وتمثل ذلك في
كثرة العلماء من الصحابة الكرام، وارتباط كبار التابعين بالصحابة، يأخذون العلم
ويدونون عنهم الآثار الصحيحة، ويبوبون الأحكام بأمانة فائقة ورعاية تامة، وقد
بلَّغوا العلم ونشروه فلم تبق حاضرة من حواضر المسلمين إلا أصبحت قاعدة للمعرفة،
ومنارة للعلم، وواجهوا الشبهات والتيارات الفكرية المنحرفة، وحذَّروا من الفرقة .
خامسا : ضياع الأمانة وآثارها في المجتمع، فمن
المؤسف أن أصبحت اسما لا مسمى لَهُ في القلوب، ولا أثر لَهُ في السلوك، فهي كما دل
عليها الحديث النبوي لا تقبض دفعة واحدة عند أول معصية يقترفها الإنسان، وهي إن بقي
لها بقايا يسيرة فإنها قليلة الشأن غير فعالة في توجيه السلوك، وأمثلة التاريخ
وشواهده على ضياعها كثيرة، فكان من آثار هذا التضييع في المجتمع ما يلي :
أ-الآثار السلوكية والنفسية : وتتضح فيما يأتي :
1-ضعف الوازع الأخلاقي، فمتى ابتعدت النفوس عن
الدِّين انفرط عقد الأخلاق الحميدة، وعاشت المجتمعات في فوضى أخلاقية، وانتشرت
الأمراض النفسية والسلوكية كالكذب والخيانة، وانهارت القيم النبيلة، وكثر التشبه
بخصال المنافقين، وفشت العداوة والبغضاء، وكثر التنافس والتحاسد على الدنيا، وهي
نتيجة قاطعة لتضييع الأمانة في المجتمع، وانهيار كيانه، وإضعاف تماسكه .
2- عدم الإخلاص في أداء الواجبات والمسؤوليات،
وتتضح آثار ضياع الأمانة في غياب استشعار الإخلاص في حياة الناس، وضعف الرقابة
الداخلية ويقظة الضمير الحي، فيكون العمل من أجل الأجر والمديح والثناء، وتغليب
المصالح الخاصة، والتفريط في أداء الأعمال الموكلة للفرد، وعدم تحمل المسؤوليات
المناطة بالأفراد والجماعات، مما أعاق مسيرة تقدم الأمة الإسلامية في ميادين عديدة
.
3- الشقاء في العاجل والآجل، فإن من أعظم الشقاء
العاجل ما يحل بالمجتمع من فقدان الأمانة وتضييعها، ومن الضيق في الحياة والنكد
والقلق، ناهيك عن عدم إجابة الدعاء، ولا يقف الأمر عند الشقاء الدنيوي بل يتعداه
للآخرة كذلك، وما توعد الله تعالى به العصاة الذين خانوا الأمانة وأضاعوها .
ب - الآثار الاجتماعية : وتتضح فيما يأتي :
1- فساد أخلاق المجتمع، وتبرز آثار تضييع الأمانة
في انقلاب الموازين الصحيحة، وتزيين المحرمات، حتى أصبحت بعض المجتمعات المسلمة لا
تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، فعم النِّفاق، وكثر الزِّنا، وانتشرت الخمور
والمخدِّرات، وما تبع ذلك من ارتفاع أسافل الناس على خيارهم بسبب توسيد الأمور
لغير أهلها .
2- تفكك العلاقات، فحينما تفتقد الثقة بين أبناء
المجتمع، وتتفشى منكرات القلوب من الغل والبغضاء والتناحر-تتفكك العلاقات
الاجتماعية، وتكثر مظاهر الخيانة، وإساءة الظن، وإنكار الحقوق، وغلبة الأنانية
والفردية وحب الأثرة، وبذا انحلت قاعدة المجتمع، وانفصمت عراه، وكثرت الإخفاقات .
3- التخلف الحضاري للمجتمع، ويظهر في غياب العزة
الإسلامية وغلبة الذل على المسلمين، وتفرقهم وتشتتهم وضعفهم اقتصاديا وتخلفهم
علميا، ووقوع فئات منهم في الهزيمة النفسية الداخلية، مما تسبب في تشويه صورة
الإسلام والمسلمين وغلبة الكذب والخيانة، والتناقض بين القول والعمل على سلوكهم .
ج- الآثار الاقتصادية : وتتضح فيما يأتي :
1- فساد التعامل المالي، ويتمثل في كثرة التعاملات
المحرمة والمشبوهة في المجتمع، كالربا والاحتكارِ والغشِ والرشوةِ، وعدمِ
الالتزامِ بالمعاملاتِ المشروعةِ وهُجْرَانِهَا، مما ترتبَ عليه الجهلُ بأحكامِ
الشريعةِ، وقلَّ من يَسْأَلُ عن الحلال، وغَلَبَ التنافسُ على الدنيا وحُطَامِها .
2- الضعف الاقتصادي، ويبرز في ضيقِ المعاشِ وشيوع
الفقر، ورواج الرِّبا وما ينشأ عنه من محقِ الأموال، وعدمِ الاستقرار، وضعفِ
التكافل، وسيطرةِ المصالح المادية، وارتفاع نسبة الفقر .
د- الآثار العلمية : وتتضح فيما يأتي :
1- غياب المسؤولية التربوية، ويحصل بتخلي العلماء
عن وظيفتهم في حمل أمانة العلم، وفقدانِ الثقة بأهل العلم، وبروز الأئمة المضلين،
وتصدرِ صغار المتعلمين، وانتشارِ التحاسد بين أهل العلم، ويَلْحَقُ به ضعفُ
البناءِ العلمي، إذ انفصَمَ العلمُ عن واقعِ الحياةِ، وأصبحَ التنافسُ على تقلدِ
المناصبِ والشهرةِ ظاهرةً عامةً .
2- ظهور الفوضى الفكرية، وذلك باندساس
أناسٍ ضعفت أمانَتُهم العلميةُ إلى حد الكذب على رسول الله r بين المسلمين، واتباع الهوى، والتلاعب بأحكام الدِّين، مما أسهم
في بروز المتعالمين؛ الذين يتقولون على الشرع بغير علم ولا هدى، وفي تفشي السرقات
العلمية، وإهدار جهود العلماء المخلصين وضياع نتاج المفكرين الصادقين .
المبحث الأول: شروط قيام جريمة خيانة الأمانة
بالتمعن في النص القانوني
لجريمة خيانة الأمانة يتضح أنها تقوم بتوفر جملة من الشروط الممهدة ، إضافة إلى
شروط أخرى مؤسسة لقيامها.
المطلب الأول :الشروط الممهدة
لجريمة خيانة الأمانة
أوجب الفصل 297 م ج ضرورة توفر
عدة شروط أولية ممهدة لقيام جريمة خيانة الأمانة و تنحصر هذه الشروط في ضرورة وجود
عقد من عقود الأمانة (فقرة أولى) بالإضافة إلى تسليم الشيء بصفة إرادية و مؤقتة
للجاني (فقرة ثانية).
فقرة أولى : ضرورة وجود عقد من عقود الأمانة
تقوم جريمة خيانة الأمانة
باستيلاء الجاني على شيء تسلمه من المتضرر بمقتضى أحد العقود المدنية المعددة على
سبيل الحصر بالفصل 297 من م.ج، (1). تبعا لذلك يجد القاضي الجزائي نفسه مجبرا على إثبات
وجود العقد الذي وقع على أساسه تسليم الشيء للجاني و منحه التكييف القانوني الصحيح (2).
1- القائمة الحصرية لعقود الأمانة:
قبل التطرق لجملة هذه العقود،
يبدو من المفيد التأكيد على أن القانون الجزائي يعاقب على الاستيلاء على الشيء
المسلم إلى الجاني بمقتضى أحد هذه العقود فحسب و أن مسألة عدم تنفيذ بنود العقد هي
مسألة مدنية تخضع لقواعد القانون المدني.