السبت، 16 مارس 2013

مدخل لقانون العقوبات.. و رؤيتي


جمهورية كردستان الكبرى
أكـاديـميـــة الــدراســــــات الإستراتيجية والدولية
قسم القانون
http://www.albarzh.com/files.php?file=c7.jpghttp://r17.imgfast.net/users/1711/58/73/07/avatars/gallery/60254810.jpg
مدخل لقانون العقوبات
Academic researcher M. A. S. Bobbygory
Professor of International Economic Relations
School Strategic and International Studies
2013م.
المقدمة
يعتبر الانتقام الفردي مرحلة القصاص الأولى التي ينال فيها المجني عليه حقه من الجاني وما أن نشأت الدولة حتى انتقل الانتقام من الفرد إليها وأصبحت بذلك صاحبة الحق في الانتقام. استمر الحال على ما هو عليه حتى ظهر كتَاب ومصلحون يدعون إلى هدم الأساس الانتقامي الذي يقوم عليه قانون العقوبات ومحاولة تأسيسه على الرحمة والإنسانية . وهذا ما نادى به مونتسكيو في القرن الثامن عشر بكتابه روح القوانين من أن الغرض من قانون العقوبات هو كبح الإجرام لا الانتقام من المجرم .
وما أن نشأت المرحلة الحديثة أو العلمية في ايطاليا حتى نادت بتغير الهدف ويعود إليها الفضل في الدعوة إلى اتخاذ التدابير الاحترازية التي تهدف إلى حماية المجتمع . تلتها حركة الدفاع الاجتماعي فقامت ببناء سياسة جنائية تأخذ في اعتبارها حماية المجتمع وإصلاح المذنب وأصبح من الأسس التي تقوم عليها مدرسة الدفاع الاجتماعي إن وظيفة قانون العقوبات هي حماية المجتمع وصيانته من مضار السلوك الإجرامي لا معاقبة المخطئ فقط .
ولا فائدة من قانون دون أن يكون له جهة تسعى إلى تطبيقه ، فكانت الجهة القضائية التي اتخذت أشكال متعددة على مراحل التاريخ المختلفة . وأصبح اللجوء الى القضاء حق للأفراد ضمنته القوانين المختلفة بغض النظر عن قربها أو بعدها من العدالة . ولم يترك المشرع هذا الحق الإجرائي دون تدخل منه لتنظيمه .
فإذا كان قانون العقوبات يقرر إيقاع العقاب على من خالف قواعده وما يهدف إليه ، فان مرحلة أخرى تسبقه تبين الإجراءات الواجب إتباعها من قبل المدعي وما يجب أن تقوم به الجهة القضائية للوصول إلى الحقيقة كما حصلت على ارض الواقع دون أن تترك للأهواء الشخصية والتحكمات دور في هذا المجال ويطلق على هذه القواعد قانون أصول المحاكمات الجزائية وضمنها قواعد الإثبات التي يلجأ إليها أطراف الدعوى كل فيما يتعلق به للوصول إلى ما يبتغيه .
الطرف الأول المدعي وتضمن له هذه القواعد بما يسهل عليه حصوله على حقه أو حق المجتمع فله إثبات ما يدعيه بما يشاء من الوسائل متى كانت مشروعة ولا تخرج عن موضوع الدعوى .
الطرف الثاني وهو المتهم حيث إن الأصل هو البراءة فيجب أن تحفظ له كافة حقوقه وحرياته أثناء المحاكمة وان يدفع كل دليل يقدم ضده وإلا فهو غير ملزم بإثبات براءته.
الطرف الثالث هو القاضي الذي تضمن له هذه القواعد حريته الكاملة في اختيار ما يشاء من الأدلة التي يبني عليها يقينه وقناعاته للوصول إلى الحقيقة دون شك فيها .
يبدو من ذلك إن هناك قواعد ينبغي إتباعها من أطراف الدعوى قبل تطبيق قانون العقوبات من قبل المحكمة ، ولا يأتي دور قانون العقوبات إلا بعد أن تتبين نتيجة الدعوى من خلال قواعد قانون أصول المحاكمات الجزائية . فقانون أصول المحاكمات هو المقدمة الضرورية والتي لابد منها لتطبيق قانون العقوبات . ومن هنا نخلص إلى حقيقة مفادها أن نتيجة الدعوى تولد من رحم قانون أصول المحاكمات الجزائية ثم يتولى معالجتها قانون العقوبات ، أما بفرض العقوبة على الجاني إذا ثبت ما نسب إليه . أو بالبراءة إذا لم يثبت بحقه شئ ، أو بتطبيق أسباب الإباحة أو عدم المسؤولية
أولا : أنظمة الإثبات في التاريخ :
يمكن تقسيم المراحل التي مرت بها أنظمة الإثبات إلى مرحلتين :
الأولى : مرحلة ما قبل الثورة الفرنسية ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة مفاصل تاريخية :
1- المرحلة البدائية او مرحلة الفطرة :
ذكرنا في المقدمة التلازم بين قانون العقوبات وقواعد الإثبات فحيث لا يوجد قانون ولا يوجد قضاء ينتفي بانتفائها وجود قواعد أو نظام خاص بالإثبات . وحيث ينتفي وجود الثلاث في مرحلة الفطرة يبرز الثأر كهدف للاقتصاص من الجاني يمارسه المجني عليه ما استطاع إلى ذلك سبيلا . لا يمنعه عن ذلك إلا ضعف قوته وعجزه ، ففي هذه المرحلة يعتمد الحق في وجوده على القوة ويدور معها وجودا وعدما فلا حق للضعيف بل هو محل الاعتداء دائما . يترتب على ذلك إن المجني عليه يستطيع أن يتهم شخصا لا لأنه هو المعتدي و انما لوجود خلافات أو أحقاد بينهما ويمكن القول إن مصدر الإثبات ربما يكون الإحساس بالشعور الداخلي .
ثم انتقل الثأر من الفرد إلى القبيلة التي ينتمي إليها المعتدى عليه ، عندما أصبح الاعتداء على الشخص هو اعتداء على القبيلة التي ينتمي إليها ، فيكون من حق القبيلة الأخذ بالثأر من المعتدي ولا ينحصر الثأر في شخص المتعدي إنما يتجاوزه إلى كل أفراد قبيلته . وهنا لا يهم معرفة الجاني مما يترتب على ذلك عدم فائدة إعمال قواعد الإثبات .
2- مرحلة الدليل الإلهي :
وهي المرحلة التي سادت فيها النظريات الإلهية والتي أدت إلى نشوء الدولة حسب رأي البعض الذي يكون فيها الحاكم مختارا من الله ليس لأحد مناقشته فلم يلتزم تجاههم بأي التزام بل عليهم واجب الطاعة تبعا لطاعتهم لله ، ولذلك فالحاكم يقضي على من شاء بما شاء وكيفما شاء . ونتيجة ذلك هو أن العقائد الدينية دبت في النفوس وأخذت مكانها في العقول وأصبح القانون ليس إلا إرادة إلهية ينفذها من اختاره الله على شعب الله وعليه فالأحكام لا تصدر في هذه الفترة إلا من قبل فئة معينة .
تم اللجوء في هذه الفترة إلى وسائل للإثبات تتناسب والمعتقدات السائدة . منها ما يسمى ( بالمحنة ) وأساس هذه الفكرة إن الآلهة سوف تتدخل لنصرة المظلوم وإظهار الجاني . ومن الإعمال التي تمارس على المتهم لإظهار براءته أو إدانته أن يُكلف بغمس يده في ماء مغلي فإذا  لم تصب بأذى كان ذلك دليلا على براءته و إلا فهو مذنب . أو أن المتهم يحمل سيخا محميا من الحديد لمسافة معينة وبعد ذلك تفحص يده فإذا تبين أنها أصيبت بالورم فهو مذنب و إلا فهو برئ . كما يعتبر نظام المبارزة من تطبيقات التحكيم الغيبي حيث الحق مع المنتصر والى غيرها من الوسائل الأخرى .
لا يمكن القول بوجود قواعد إثبات في هذه المرحلة . ولكن بظهور بوادر لقانون العقوبات كان لابد من أن يصاحبه ظهور قواعد الإثبات تتناسب معه . وبما أن القوانين مستمدة من الآلهة فلابد أن يكون للآلهة دور في إظهار الجاني حين يعجز الإنسان عن كشفه ، فيتم اللجوء عندئذ إلى نظام ( البشعة ) مثلا حيث ينقص المدعي الدليل فيبتكر المبشع طريقة لإظهار الجاني . كأن يحمي طاس من نحاس ثم يطلب من المتهم أي يلعقه بلسانه فإذا لم يحترق فهو برئ . وإذا جاز لنا أن نطلق على القواعد المطبقة اسم قانون العقوبات جاز لنا في الوقت ذاته أن نطلق على نظام البشعة أو المحنة بقواعد الإثبات التي تتناسب مع قواعد العقوبات في ذلك العصر .
ج – مرحلة الإثبات المقيد أو مرحلة التحديد :
وتسمى مرحلة الدليل الإنساني وفيها تتدخل إرادة المشرع بقوة لتحديد الأدلة التي يجب على القاضي إتباعها . وحيث تتدخل إرادة الشارع بقوة تتراجع حرية القاضي إلى أدنى مساحة لها ، ويصل المشرع في تدخله بان يحدد القوة القانونية للأدلة وهنا لا يبقى أمام القاضي إلا أن ينفذ إرادة الشارع وليس له أن يبني حكمه على غيرها .
لا تؤخذ قناعة القاضي في هذا النظام بنظر الاعتبار فمتى توافرت عناصر وشروط الأدلة على القاضي أن يصدر حكمه حتى لو كانت قناعته في غير ذلك . كما هو الحال في إجراءات محكمة طوكيو التي انتقدها قضاتها وقالوا لو كانت هناك هيئة عليا لنقضت أحكامهم لما تخللت المحاكمات من أخطاء منها ما تعلق بقواعد الإثبات .
هذه المرحلة جاءت كردة فعل على مرحلة أخرى أعطي فيها للقاضي الحرية الكاملة في إتباع ما يشاء إلى الحد الذي يوصله إلى التعسف والتحكم . وما محاكم التفتيش التي نشأت في أوربا إلا دليلا على ذلك .
ظهر الاعتراف في هذه المرحلة باعتباره سيد الأدلة وفي كثير من القضايا لا يحكم إلا بحصوله ، لذلك لجأوا إلى التعذيب لانتزاع الاعتراف من المتهم ولا زال هذا المبدأ مطبق في كثير من البلدان بغض النظر عن مناداتها بحقوق الإنسان . فيتم اللجوء إلى وسيلة التعذيب للحصول على الاعتراف في الدول المتأخرة في مجال حقوق الإنسان كالدول العربية ، ويتم نفس الحال في الدول المتقدمة كأمريكا إلا انه يتم على أراضي الغير ولغير الأمريكيين .فلا حقوق لغير الأمريكيين ولا ارض مقدسة غير الأرض الأمريكية . وهذا ما كُشفت عنه السجون السرية ، وما كشفته الاستخبارات الأمريكية نفسها مؤخرا . نستخلص أهم ملامح هذه المرحلة وهي التالي :
- الشارع هو من يحدد الأدلة التي يبني عليها القاضي قناعاته وليس له قبول سواها .
- لم يكتف المشرع بتحديد الدليل الواجب الإتباع بل يحدد القيمة القانونية له إذا ما توافرت فيه شروط معينة أما قناعة القاضي في الدليل فليست محل اعتبار عند الشارع طالما توافرت أدلة الإدانة التي حددها .
- رفض الشارع للسلطة التقديرية للقاضي واستفراد الشارع بها .
هذه أنظمة الإثبات التي سادت قبل الثورة الفرنسية ، على أن هذا القول لا يعني عدم وجود آثار لها على مستوى التشريعات في الوقت الحاضروتتمثل بالاستثناءات التي ترد على مبدء الاقتناع القضائي.
عيوب نظام الإثبات المقيد :
1- إن عيوب هذا النظام كثيرة ومساوئها أكثر لان تقييد سلطة القاضي بأنواع من الأدلة دون مراعاة اقتناعه فيما هو معروض أمامه هو في الحقيقة إغفال لقناعته ، بل وأكثر من ذلك ما هو إلا إحلال لقناعة المشرع محل قناعة القاضي .
2- الدليل يتعلق بواقع معين ويختلف من واقعة إلى أخرى . وإذا كان الأمر كذلك فهذا من ضمن عمل القضاء لا عمل المشرع . وتحديد الشارع للأدلة وتحديد قيمتها القانونية هو في الواقع تدخل في عملية الإثبات التي هي أصلا من عمل القضاء .
3- سلب أي دور للقاضي في عملية الإثبات إلا من التأكد من توافر عناصر الدليل ولا عبرة لقناعته وهذا ما يجعل من القضاء وظيفة آلية ليس له ان يبحث عن دليل قناعته فيما ينظر فيه بل عليه ان يبحث عن دليل قناعة المشرع فيما هو ينظر فيه وفي ذلك سلب لحرية القاضي في الحركة
4- إن هناك حدود لسلطة كل من الشارع والقاضي . فإذا كانت سلطة الشارع يحدها مبدأ الشرعية الجنائية . فان مبدأ الأصل براءة المتهم هو الذي يرسم حدود سلطة القاضي . وكما أن إعطاء القاضي سلطة التجريم والعقاب فيه تجاوز على سلطة المشرع حيث ليس للقاضي أن يجرم أو يعاقب إلا من جرمه وفرضت عقوبته من قبل الشارع . فكذلك ليس للشارع التدخل في البراءة والإدانة لأنها من اختصاص القضاء.
ويرى البعض انه بناء على هذه الانتقادات للقاضي أن يتبع كافة طرق الإثبات لبناء عقيدته دونما تدخل من المشرع . وهذا ما نصت عليه المادة ( 427 ) من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي (تثبت الجرائم بكافة طرق الإثبات ، ويحكم القاضي تبعا لاقتناعه الخاص ).
الثانية : مرحلة ما بعد الثورة الفرنسية :
وفيها تحققت ثورة في أوربا في مجال الإثبات . نتج عنها نقل عبء الإثبات من المتهم إلى سلطة الاتهام . أصبح المتهم بموجب هذه الثورة برئ أثناء سير إجراءات الدعوى ولا يعامل بغير ذلك إلا بعد اكتمال الإجراءات وتوفر الأدلة القاطعة على إدانته . ويرى الفقهاء إن هذا المبدأ له علاقة بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات . لأنه يُدخل الإثبات في اختصاص القضاء بينما مبدأ الشرعية يرسم اختصاص المشرع . وتنقسم هذه الفترة إلى قسمين :
1- المرحلة الوجدانية أو مرحلة حرية الاقتناع :
وفيها يمنع المشرع إرادته من التدخل فتنطلق حرية القاضي في اختيار ما يراه مناسبا وعقلانيا من الأدلة لتأسيس حكمه عليه وهنا تتجلى قناعة القاضي بأجلى صورها فهو يستعمل  جهده العقلي دون أن يكون مجبرا على الاعتماد على جهد غيره . فيكون المشرع في ظل هذا النظام قد ترك للقاضي حرية تقدير قيمة الدليل . إطلاق حرية القاضي لا يعني عدم خضوعه لأية ضوابط وقواعد تحدد له أسلوب البحث عن الدليل وأسلوب عرضه فإذا ما خالف القاضي هذه القواعد يحظر عليه أن يستمد اقتناعه من الدليل المحظور.
- مبدأ اقتناع القاضي :
الأساس الذي يقوم عليه نظام الإثبات الحر هو اقتناع القاضي ونعني به ما يبذله القاضي من جهد ذهني أثناء العملية القضائية وصولا إلى مبتغاة الذي يهدف إليه وهو إظهار الحقيقة ، والتي يصعب في بعض الأحيان إظهارها إلا بالبحث والتحري عن الدليل الذي يثبتها ومواجهة من أنكرها بثبوتها . فإذا ما وصل القاضي إلى حالة استطاع بها تجميع كافة عناصر الواقعة ولم يبق لديه شك بأن ما وصل إليه لا تتعداه الحقيقة الكاملة فهنا يصل القاضي إلى الاقتناع .
وحسب رأي الدكتور محمود مصطفى هو التقدير المسبب لعناصر الإثبات في الدعوى وهو البديل عن نظام الأدلة القانونية . وما يعنيه اقتناع القاضي ان للدولة حق معاقبة المذنب لما ارتكبه من جرم ، أو ليس من حق الدولة معاقبة المتهم لعدم ثبوت التهمة بحقه أو لوجود الشك في انه ارتكب الجريمة ، لأن الشك يفسر لمصلحة المتهم .
- ماهية مبدأ اقتناع القاضي :
صحيح إن على الادعاء العام أن يقدم الدليل الذي يثبت قيام المتهم بما نُسب إليه ، وللمتهم أن يفند ما قدمه الادعاء العام . ولكن ما هو دور القاضي هل هو دور سلبي ينحصر فقط في الموازنة بين الأدلة المقدمة وتلك التي يفندها المتهم آم له دور آخر؟
وفق نظام الإثبات الأخير ان دور القاضي لم يعد دورا آليا كما كان في نظام الإثبات المقيد كذلك لم يكن دورا سلبيا و إنما للقاضي دور ايجابي في ما يدور في الجلسة من أدلة للإثبات أو النفي وما يتحراه هو من أدلة بحثا عن الحقيقة بما يراه مجديا من السبل التي تكشف الحقيقة . فله أن يبني عقيدته وقناعته على ما يراه ومن أي طريق يشاء لأن أهم عنصر يقوم عليه نظام الإثبات الحر هو إطلاق الأدلة وعدم تقييد القاضي يبعضها ، فله أن يختار ما يشاء منها ويقدرها بحريته التامة .
حرية القاضي في الاقتناع لا يعني أنها مطلقة فليس للقاضي أن يحل تخميناته آو تصوراته الشخصية محل الدليل بل عليه ان يتبع الدليل ويبعد تصوراته الشخصية . على ان يكون تصرفه خاضعا للعقل والمنطق ويقوده الدليل الى النتيجة المنطقية التي رتبها ذلك الدليل . ولذلك تدخل المشرع حتى لا يطلق العنان للقاضي بحيث يكون لتصوراته دخلا في النتيجة التي توصل إليها ، فاشترط أن يكون الدليل مشروعا وان يطرح في الجلسة حتى تتم مناقشته من الخصوم وان يكون واضحا غير مشوب بالغموض والإبهام ، كما اوجب المشرع على القاضي أن يكون حكمه مسببا وهذه الشروط حدَت من حرية القاضي واعتبرت صمام الأمان من انحراف القاضي عند ممارسته لواجبه و إلا كان القرار عرضة للطعن .
المذهب المختلط :
على إن هناك مذهب آخر هو مذهب الإثبات المختلط ويسلك طريقا وسطا بين المذهب ألتقييدي والمذهب الحر محاولا الجمع بين مميزات المذهبين متحاشيا سلبياتهما . فهو مع تحديد طرق الإثبات إلا انه يمنح القاضي سلطة تقدير الأدلة . فمثلا للقاضي ان يحكم بما اجمع عليه الشهود أو إن يقضي خلافه وله سلطة تقدير القرائن .
اتجه الإسلام إلى الأخذ بالمذهب المختلط كونه حدد طرق الإثبات وجعلها في أدلة معينة لكنه أطلق سلطة القاضي في تقديرها حتى لا تكون سلطته آلية لا تأثير لها في تقدير الأدلة فللقاضي أن يحكم بخلاف ما اجمع عليه الشهود إذا ظهر الحق أو بنى اعتقاداته عن طريق أخر غير طريقهم . ومثالها ان القاضي لا يحكم بحد المرأة إذا شهد عليها أربعة - وهي الشهادة المقررة لإثبات جريمة الزنا – وظهر أنها بكر.
وإذا كان الإسلام قد اخذ بمبدأ تقييد سلطة القاضي في الحدود وأعطاه سلطة التقدير للأدلة ، إلا أن الإسلام في باب التعزير اخذ بمبدأ حرية القاضي لأسباب منها كثرة هذا النوع من الجرائم إضافة لتقاربها واختلافها من مجتمع لأخر . فهي تختلف من مجتمع الى اخر وفق ظروف كل مجتمع من جهة ومن جهة أخرى تختلف حسب ظروف كل جريمة . ولذلك ترك للقاضي حرية إثبات التعازير بكافة وسائل الإثبات التي يستطيع ان يبني قناعته من خلالها خلافا لجرائم الحدود .
اخذ المشرع العراقي في قانون الإثبات بهذا الاتجاه حيث جاء في الأسباب الموجبة ان القانون حدد طرق الإثبات وترك للقاضي حرية تقديرها وفي أعمال ذهنه بما يوصله إلى الحكم العادل . وبذلك يكون المشرع العراقي سلك الطريق الوسط بين نظامي الإثبات المطلق والإثبات المقيد. وللمذهب المختلط مميزات هي في الحقيقة تدعو الباحث إلى الوقوف كثيرا عنده ودراسته دراسة مستفيضة فهو:
أ- يجنب القاضي شرور الأهواء التي تأمر بها النفس الإمارة بالسوء نتيجة التأثيرات الأخرى ، كما تجنبه تقييد الحرية الذي يقف لا حول له ولا قوة سوى تنفيذ إرادة المشرع مرتبا قناعاته على قناعات المشرع لا على ما عرض عليه من أدلة . وبذلك تجنب مساوئ النظامين السابقين من إطلاق في حرية القاضي وكأنه معصوم من الشك فيه ، أو أن المشرع يفقد الثقة فيه إلى الحد الذي يقيد حريته
ب- يعطي للقاضي سلطة تقدير القرائن وإذا كانت تضيق في مجال الحدود إلا أن هناك مجالا للحركة بها يستطيع القاضي تقدير الأدلة كما في جريمة الزنا إضافة إلى حريته الكاملة في التعازير
ج- لم يجز للقاضي العمل بعلمه الشخصي فيحمي أطراف الدعوى من هوى القاضي .
2- المرحلة العلمية :
الجريمة كأي ظاهرة شملها التقدم العلمي والتقني وقطع الجناة أشواطا بعيدة في اختراع الأساليب العلمية لارتكاب جرائمهم دون أن يتركوا لها أثرا يدل على مرتكبيها . وأكثر من ذلك أصبح نتيجة التقدم التقني بإمكان الجاني تنفيذ جريمته وهو في بيته ، وتكون اشد خطرا من الجاني الذي يحمل سلاحه أو يربط حزاما ناسفا في وسطه ليفجر نفسه في حشد من الأبرياء ، حيث يستطيع الدخول بواسطة جهاز الكمبيوتر على شركة دواء مثلا ليغير في تركيبة دواء معين مما يتسبب عنه قتل الآلاف . هذه التقنية الجديدة توجب ان تقابلها تقنية في الجانب الأخر وهو جانب القضاء لكشف الجناة .
الواقع الجديد فرض على القاضي قيودا جديدة أوجبت عليه الالتزام بها إذا أراد التماسا للعدالة . وحتى يتجنب الأساليب التقليدية التي لا تجدي نفعا في إثبات جريمة ارتكبت بوسائل علمية جديدة ، كان عليه أن يشرك المشرع لتعزيز قناعته .
من جانب أخر اخذ العلم دوره في اكتشاف أساليب وطرق فنية لكشف هذه الجرائم ونسبتها الى فاعلها . وهنا يلعب الخبير دورا رئيسيا في الإثبات فيستطيع الخبير إدراك ما لا يدركه القاضي بحسب تخصص كل منهما . فيستطيع الطبيب وعن طريق تشريح الجثة مثلا أن يقف على أسباب الوفاة أو ساعة حدوثها وهذا ما لا يستطيع القاضي إدراكه لأنه خارج عن ثقافته وخبرته القانونية كذلك مضاهاة الخطوط لاكتشاف جريمة التزوير . فهذه وغيرها من الأمور لا يستطيع القاضي ان يبني قناعته على فهمه الخاص وإنما يتطلب الأمر منه وكشفا للحقيقة التي هي مراده أن ينتدب إليها خبيرا ومما يتوصل إليه الخبير يستطيع القاضي بناء قناعته .
يرى فيريFerri إن أعمال الخبرة تؤدي إلى قرائن قاطعة وتصبح الوسائل العلمية هي الأساس في الكشف عن الجرائم التي أخفتها الوسائل العلمية المضادة . ويرى أن الوسائل العلمية لا يقتصر دورها على كشف الجريمة وتحديد مرتكبها بل يتعدى ذلك لمعرفة أسباب ارتكابها ، ولذلك فهو يدعو إلى ضرورة الالتجاء لها باعتبارها خير وسيلة للمحقق والقاضي على حد سواء.  وهناك من يرى إن هذه المرحلة لم تؤت ثمارها بعد وستظهر نتائجها في المستقبل
ثانيا : تعريف الإثبات
الإثبات لغة أصله : ثبت الشئ ثباتا وثبوتا فهو ثابت ، وأثبته ، وثبتَه .
وقبل التطرق إلى تعريفه اصطلاحا علينا أن نفرق بين نوعين من الإثبات : الإثبات المدني فقد عرفه السنهوري بأنه ( إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق القانونية التي حددها القانون على وجود واقعة قانونية ترتبت أثارها ). أما الإثبات الجنائي فعرفه البعض على انه ( إقامة الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها على صحة واقعة قانونية يدعيها احد طرفي الخصومة وينكرها الطرف الأخر ). ولم تعرف التشريعات الإثبات بنوعيه وان خصصت لكل منهما حقلا خاصا في التشريع لاختلافهما وتظهر صور الاختلاف بينهما في التالي:
1- وسائل الإثبات المدني تهيأ قبل النزاع وقبل البدء في إقامة الدعوى ، فنفس الوسائل التي يتم على أساسها إثبات الحق تعتمد كوسائل للإثبات . لان في التعامل المدني المطلوب إثبات ذلك التعامل كما في حالة الدين فالمتعاملين يثبتون تعاملهم عن طريق الكتابة . إلا أن هذه الوسيلة قابلة لإثبات العكس .
أما في المجال الجنائي فتبدأ بعد رفع الدعوى فالجاني يحاول إخفاء كل اثر يدل على فعله أو نسبته إليه . الأمر الذي يستدعي إجراء التحقيق والتوسع فيه للوصول إلى أدلة تثبت قيام الجاني بفعله المتهم به وذهبت المدارس الى اتجاهات مختلفة في الإثبات كما رأينا.
2- في الإثبات المدني تكون أدلة الإثبات مقيدة في حين كونها غير ذلك في الإثبات الجنائي . وبهذا تثبت حرية القاضي في بناء قناعته في المجال الجنائي .
3- الإثبات في المجال المدني ينظمه في الغالب قانون قائم بذاته في حين أن الإثبات في المجال الجنائي يدخل ضمن قانون أصول المحاكمات الجنائية .
واستطيع أن اطرح التعريف التالي للإثبات الجنائي واراه مستكملا لعناصر الإثبات وهو : ما يقدمه الخصوم من دليل مشروع ويعتمده القضاء لإثبات واقعة معينة . يتضح من هذا التعريف المختصر للإثبات أن له معاني ثلاثة :
أ- العملية المشروعة التي يقوم بها المدعي أمام القضاء لإثبات إن اعتداء ما حصل على مصلحة أو حق يحميه القانون عن طريق إقامة الدليل .
ب- ما يستطيع بواسطته المدعي من إقناع القاضي بان هناك واقعة حصلت .
ج- خلاصة ما وصل إليه المدعي من إقناع القاضي بتعلق حقه في واقعة معينه .
على أن مجال الإثبات لا يقتصر على إقامة الدليل أمام القاضي بل يتسع ليشمل سلطات التحقيق والاستدلال . ومن يحاول الإثبات هو من يحاول كشف الحقيقة التي يريد إظهارها عن طريق القضاء وعن طريق اتخاذ الإجراءات التي رسمتها الخصومة الجنائية .
ثالثا : القواعد الأصولية للإثبات
الأصل الأول : براءة المتهم
أمر شاذ أن يرتكب الفرد جريمة لذا فالأصل هو البراءة حتى يثبت عكس ذلك . ولا يقتصر هذا الأصل على الجانب الجنائي بل يشمل المدني أيضا . فهو ينص على براءة الذمة من الحقوق كما براءة الجسد مما يقع عليه من عقوبة . أساس هذه القاعدة ( اليقين لا يزال بالشك ) . يترتب على هذه القاعدة إن من غير المقبول أن يدان شخص بناء على توجيه الاتهام إليه من المدعي . أهم ما يمتاز به مبدأ الأصل البراءة هو:
1- نقل عبء الإثبات من عاتق المتهم إلى الاتهام ، وينبني على هذا ان المتهم لا يكلف بإثبات براءته وإنما له أن ينكر ما نُسب اليه وليس عليه إقامة الدليل فيما أنكر .
2- ضمان حقوقه وحرياته أمام القضاء أثناء سير المرافعة . إلا أن حماية المجتمع توجب اتخاذ بعض الإجراءات ضد المتهم والتي تمس حريته . وفي هذه الحالة يجب أن يتم التوازن بين هذه الإجراءات وبين المبدأ العام القائل ببراءة المتهم وهذا ما يطلق عليه المشروعية الإجرائية . وبذلك يحقق المبدأ هدفين :
- كونه ضمان للإنسان . – مانع للسلطة من الركون الى هواها والسقوط في هاوية الظلم والاستبداد
الأصل الثاني : مشروعية إجراءات جمع الأدلة
يفترض إن كل ما صدر من تدابير او ما اتخذ من إجراءات أو قرارات يكون صادرا بنحو سليم ومتفق مع القانون . ولكن هذه الافتراض يمكن إثبات عكسه فمن يدعي إن إجراء اتخذ خلاف القانون فعليه يقع عبء الإثبات ، فإذا نجح فيما ادعاه سقط الإجراء ، أما إذا اخفق بقيت المشروعية ملازمة للإجراء وهذا يهدف إلى أمرين :
1- حماية المتهم بحفظ كافة حقوقه أثناء سير الدعوى ، بما فيها حقه في تفنيد كافة الأدلة ألموجهه ضده .
2- منع القاضي من التعسف والتحكم وعدم الابتعاد قليلا او كثيرا عن القانون في الركون إلى دليل غير شرعي لبناء قناعته .
الأصل الثالث :مبدأ حرية الإثبات
لا يقيد القاضي بأدلة معينة بل له الحرية في اختيار ما يشاء لبناء قناعته وهذا موقف الشارع في كثير من الدول العربية . فقد اخذ بذلك المشرع العراقي في المادة 213 من قانون أصول المحاكمات الجزائية ، كما اخذ به المشرع السوري في المادة 175 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي نصت على أن ( تقام البينة في الجنايات والجنح و المخالفات بجميع طرق الإثبات . والى هذا ذهبت مجلة الإجراءات الجزائية التونسية بموجب القانون 23 لسنة 1968 حيث نصت في المادة 150( يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات ما لم ينص القانون على خلاف ذلك ، ويقضي الحاكم حسب وجدانه الخالص ) .
على أن وجدان القاضي الخالص لا يكفي كضمانة لتقييد هواه ، فإذا كان الأصل حرية القاضي فيجب وضع استثناءات لهذا الأصل لأن القاضي قد ينطق بعض الأحيان عن الهوى مما دعى بعض التشريعات إلى ترتيب قيود على أصل حرية القاضي فمثلا قالت بعض التشريعات على القاضي وجوب التقيد بطريقة معينة في الإثبات إذا نص عليها القانون وهذا ما ذهبت إليه المادة 175 من قانون أصول المحاكمات السوري ( إذا نص القانون على طريقة معينة للإثبات وجب التقيد بهذه الطريقة ) . كما لو اشترط القانون إثبات جرائم معينة بأدلة بعينها كحالة إثبات الزنا على شريك الزانية أو ما يثبت من الرسائل والوثائق الأخرى التي كتبها الغاوي في جريمة الإغواء.
المراجع :
1- شرح قانون الإجراءات الجنائية ، محمود نجيب حسين ، دار النهضة العربية ، القاهرة ، الطبعة الثالثة ، مطبعة جامعة القاهرة والكتاب الجامعي 1998 .
2- محمود المرجع السابق .
3- شرح قانون الإجراءات الجنائية ، عدلي عبد الباقي ، الطبعة الأولى ، القاهرة ، دار النشر للجامعات المصرية 1953 .
4- الوجيز في أصول المحاكمات الجزائية ، محمد فاضل ، ج1 ، مطبعة جامعة دمشق 1961.
5- د . الهادي أبو حمرة ، توزيع وظائف الدولة كآلية لحماية الحريات : القانون الجنائي نموذجا ، مقالة على الانترنت .
6- كوثر احمد خالد ، الإثبات الجنائي بالوسائل العلمية ، دراسة تحليلية ، الطبعة الأولى 2007 .
7- كوثر المصدر السابق .
8 - سلطة القاضي الجنائي في تقدير أدلة الإثبات بين الشريعة والقانون ،عبد الله بن صالح ، الرياض ،1423 ه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق